الرجل الذي يرفض أن يموت ~ المورد الجديد

يحكى أن رجلا كان من الاغنياء الكبار ،يملك أموالا طائلة وأراضي شاسعة ،وضيعات مترامية الاطراف، يحب الاستمتاع بالحياة كثيرا ، لم يكن يحب الزواج ولا الابناء، لانه يعتبر ذلك من الاعباء التي تنغص حياة الانسان. أصيب ذات يوم بوعكة صحية ألزمته الفراش .فكلف أحد اصدقائه المقربين إليه بإحضار أكبر الأطباء ليعالجه من السقم الذي أبى إلا أن يسكن جسده. وأنفق مالا كثيرا في سبيل ذلك .ولما لم ينفع معه أي علاج ،طلب من صديقه إحضار طبيب آخر. ولما زاره هذا الاخير، فحصه وجس نبضه ,ثم قال له بنبرة غير مطمئنة: "تناول هذا الدواء وسوف تتحسن صحتك وتسترجع عافيتك" . ولما هم بالانصراف همس في أذن صديق الرجل الغني قائلا :"هل الرجل أبوك ؟"فأجابه بصوت خافت : "لا إنه صديقي الحميم ،قل لي أيها الطبيب هل من أمل في شفائه؟" فقال له "لا أخفيك سرا ،يؤسفني أن أخبرك بأن صديقك لم يعد بينه وبين الموت إلا بضعة أيام ،أسبوع أو اسبوعان ،ثم يودع هذه الحياة ،هذه هي الحقيقة ،اعتن بصديقك ولا تخبره بما قلته لك، مع السلامة."..

ولما عاد، نظر إليه الرجل الممدد على الفراش نظرات زائغة قائلا بصوت متهدج:" أخبرني أرجوك، ماذا كان يقول لك الطبيب ؟"فاجابه متلعثما : "لا شيء.. قال لي هممم ..احرص على أن يتناول صديقك الدواء بانتظام "...فنظراليه الرجل وقال :"لا تحاول أن تكذب علي، لقد سمعت ما دار بينكما، سوف أموت ،هه، أليس كذلك ؟اسمع ،أنا لا أريد أن أموت وسأعيش رغم أنفك ، ساعيش رغم أنف هذا الطبيب" فاستغرب صديقه من كلامه، ونظرإليه نظرات كلها اشفاق وحزن .ثم حياه وخرج قائلا :"أتمنى لك الشفاء صديقي مع السلامة"..

وفي الصباح نهض الرجل من فراشه متحاملا على نفسه، ووقف أمام المرآة ودنا منها مرددا :"أنا لا أريدأن أموت ،أريد أن أعيش ،أريد أن أتمتع بالحياة".. وجمع قبضة يده ملوحا بها في السماء كأنه يتوجه إلى شخص ماثل أمامه صائحا ومهددا: أيها الموت، إنك لن تستطيع أن تهزمني، سأعيش رغم أنفك".. ثم تناول فطوره وشرب الدواء و جمع أمواله في حقيبة ،وحجز لنفسه تذكرة وركب الباخرة متوجهاا لى أبعد مكان في الارض .وطيلة الرحلة أخد يتمتع بما لذ وطاب من الطعام والشراب ،غير عابيء بنصائح الطبيب وجمع حوله بعض المسافرين، وظل يرقص ويلهو معهم ،ويوزع عليهم المال ،ويبعثره هنا وهناك قائلا وهو يقهقه:" تمتعوا أصدقائي بالحياة وانسوا همومكم وأحزانكم " ..

ولما وصل الى تلك البلاد البعيدة، اشترى منزلا فخما .وبعض مرور ستة أشهر، شفي الرجل من مرضه، وعاد كأنه شاب في العشرين من عمره ،يلهو ويتمتع بملذات الحياة ،ويسرف في الاكل والشراب ،ويجمع حوله أصدقاءه الجدد ،ويسهر حتى وقت متأخر من الليل وباع بعض أملاكه وأخد يتجول ويسافر إلى المناطق البعيدة. وكلما حل ببلد جديد اشترى مسكنا فاخرا، وجمع حوله الناس ووزع عليهم المال والهدايا وظل هكذا حاله .

وذات يوم خرج يتفقد أحد أصدقائه, فأخبروه بانه مات بسبب لدغة ثعبان. فشعر لأول مرة بالخوف ،لا يريد أن يسمع أحدا يتلفظ بكلمة الموت .فجمع حقائبه وقرر السفر الى قرية نائية، يعيش فيها أناس حياة بسيطة،لا يعرفون عن الحضارة شيئا ،والغريب أنهم لا يعرفون من الحيوانات إلا الغزلان والأرانب والطيور والاسماك .فعاش بينهم وتعلم لغتهم ، وصار كأنه واحد منهم .وأخد يلقنهم بعض أمور الحياة التي يجهلونها. فتقوت أواصر الصداقة والألفة بينه وبينهم ،وكل يوم يعلمهم أشياء جديدة. وأحبهم كثيرا, وقرر أن يستقر في هذه القرية لأن سكانها لا يعرفون معنى الحزن والهم ،إذا مات أحدهم احتفلوا بموته ،وودعوه إلى مثواه الأخير بالاهازيج والرقص والغناء والضحك عوض البكاء...

وذات مساء كان جالسا مع سكان القرية, يحكي لهم عن مغامراته وأسفاره ويروي لهم القصص المشوقة ’بعضها مما قرأه وبعضها من صنع خياله . فقاطعه أحد كبار سكان القرية طالبا منه أن يشرح له كلمة وردت على لسانه وهو يحكي لهم إحدى الحكايات .كانت هذه الكلمة تتعلق بحيوان سام له ثمانية أرجل ، يعيش في الاماكن الحارة ،وسمه يوجد بغدة في آخر ذيله ينتهي بشوكة. ويبدو أنهم لأول مرة يسمعون عن هذا المخلوق العجيب، لأن قريتهم لا يوجد بها هذا النوع من الحيوانات. فطلب منهم الرجل ان يحضروا له شيئا من الطين، فأخذ يصنع منه ذلك الحيوان ،وسكان القرية ينظرون إليه مشدوهين. ولما انتهى أمسك بذيله وقال لهم:" انظروا هذا هو المخلوق الذي حدثتكم عنه, يسمى عندنا بالعقرب وهو يلدغ من هنا". وأمسك بشوكته بين أصبعيه. ولم يكد يتم كلامه حتى صاح وارتمى على الارض، وأخد جسمه ينتفض ثم علته زرقة ثم همد.. تحلق حوله سكان القرية مستغربين ،ولما وضع كبيرهم يده على صدر الرجل ،إذا هو جثة هامدة ،وأدركوا بغريزتهم أنه فارق الحياة ..صاحوا مهللين وحملوه وأخذوا يرقصون ويغنون وانطلقوا به داخل أجمة بينما تسلل العقرب واختفى في جنح الظلام...