يقول تعالى : ( لا
إكراه في الدين ) أي : لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي
دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام
وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره
فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا . وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في
قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عاما .
وقال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال : كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت
بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل
: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )
وقد رواه أبو داود
والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه . وقد رواه ابن أبي حاتم
وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن
البصري وغيرهم : أنها نزلت في ذلك .
وقال محمد بن إسحاق
عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [ بن جبير ] عن ابن
عباس قوله : ( لا إكراه في الدين ) قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف
يقال له : الحصيني كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله
عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
رواه ابن جرير وروى
السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتا فلما
عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسق قال : كنت في دينهم
مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول :
( لا إكراه في الدين
) ويقول : يا أسق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين .
وقد ذهب طائفة كثيرة
من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا
بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم
إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام ، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له
أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل . وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : ( ستدعون إلى
قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : ( يا أيها النبي
جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : ( يا أيها الذين
آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين
) [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل
" يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال
ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .
فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لرجل : " أسلم " قال : إني أجدني كارها . قال : " وإن كنت كارها
" فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل ، فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه
وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له :
" أسلم وإن كنت كارها ؛ فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص " .
وقوله : ( فمن يكفر
بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) أي
: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله
، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) أي :
فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم .
قال أبو القاسم البغوي
: حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان هو ابن
فائد العبسي قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان ،
وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال ، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من
أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيا أو نبطيا . وهكذا رواه ابن
جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره .
ومعنى قوله في الطاغوت
: إنه الشيطان قوي جدا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم
إليها والاستنصار بها .
وقوله : ( فقد استمسك
بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) أي : فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، [ ص: 684 ] وشبه
ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا
قال : ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)
قال مجاهد : ( فقد
استمسك بالعروة الوثقى ) يعني : الإيمان . وقال السدي : هو الإسلام . وقال سعيد بن
جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله . وعن أنس بن مالك : ( بالعروة الوثقى ) : القرآن
. وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله .
وكل هذه الأقوال
صحيحة ولا تنافي بينها .
اترك تعليقا ConversionConversion EmoticonEmoticon
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.